لماذا خلق الله الانسان ؟
ان الله عز و جل لم يخلق الانسان لكي يمتحنه و لا لكي يعرف ما سيؤول اليه
مصيره و ذلك لأنه جل جلاله علام الغيوب و لا يخفى عليه شيء ، بل ان الله
تعالى خلق الانسان لكي يُغدق عليه نِعَمَه و لكي يمكِّنه من أن يسلك طريق
الكمال ، فسمح له أن يرقى في طريق الكمال و يصل الى أعلى مراتبه بطاعة
الله و امتثال أوامره و ترك نواهيه .
و من أجل تعريف الانسان بالمصالح
و المفاسد و تسهيل سلوكه لهذا الطريق وضع لهذا الانسان بواسطة الانبياء و
الرسل و الأئمة الهداة المنهاج الكامل و البرنامج المتكامل الكفيل بإيصاله
الى هذا الهدف السامي ـ إن أراد ذلك و سعى له ـ ، و جعل لهذا الانسان
الحوافز الكافية لإقتحام هذا الطريق ، كما وضع أمامه الحواجز الكثيرة
لمنعه من الانحراف عن الصراط الحق المبين .
فلسفة الامتحان :
اقتضت الحكمة الإلهية أن لا يكون الإنسان مجبوراً عديم الاختيار ، بل أراد
له الاختيار فأعطاه حق الانتخاب و تحمل المسؤوليات و العواقب ، و لأن
العدالة الألهية تقتضي أن يُثيب كل فرد على قدر توفيقه في سلوك هذا الطريق
و على قدر استحقاقه للثواب أو العقاب ، فكان لا بد أن يعرف كل فرد من
أفراد النوع الانساني مدى توفيقه في هذا المجال ، لذلك جعل الله الامتحان
في هذه الدنيا لإتمام الحجة على الانسان و لكي يعرف الانسان نفسه مستواه و
مقدار ما قدمه من العمل الصالح أو حجم أعماله المخالفة لأوامر الله و
نواهيه .
قال الله عَزَّ و جلَّ : ﴿ أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا
أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا
الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا
وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ ﴾ [1]
فالامتحان هنا ليس لأن الله لا
يعلم عاقبة الانسان ، لأنه سبحانه و تعالى يعلم ما هو كائن و ما كان و ما
يكون و ما لا يكون ، و لكنه عزَّ و جلَّ يمتحنه لتظهر الأفعال التي يستحق
عليها الإنسان الثواب و العقاب ، بل لكي يُتمَّ الحجة على الانسان فلا
يكون الجزاء و لا العقاب الا بمبرر .
و مثال ذلك : ان المعلم الحاذق
يعرف جيداً من خلال ممارسته لتعليم طلابه من سيكون من أؤلئك الطلاب فائزاً
و من سيكون منهم راسباً في نهاية العام الدراسي ، و لكنه رغم علمه يمتحنهم
جميعاً ، و ذلك لكي يُتم الحُجة على الطلاب و حتى لا ينكر عليه أحد منهم
تقيمه لهم من حيث الفوز و عدمه .
قال الشيخ محمد جواد مغنية ( رحمه
الله ) في تفسير قول الله عزَّ و جلَّ : ﴿ أَحَسِبَ النَّاسُ أَن
يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ ﴾ [2] لا يبتلون
و يمتحنون بالضراء و السراء ، و خلاصة المعنى أن الإيمان ليس لعقا على
اللسان ، و لا صورة و شكلا ، و لا تسبيحا و تهليلا على عدد حبات المسابح ،
و إنما هو فعل الواجب و ترك الحرام ، و على سبيل المثال : إن كنت غنيا
أديت حق اللّه و الناس من أخماس و زكوات عن طيب نفس ، و إن كنت فقيرا لم
تبع دينك للشيطان ... [3]
و قال رحمه الله في تفسير قول الله تعالى :
﴿ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ... ﴾ [4] جاء في التفاسير
أن هذه الآية نزلت في عمار بن ياسر و غيره من المعذبين على الإسلام ، و
القصد منها أن يوطنوا النفس على الأذى من أجل الحق، و ينالوا الدرجات عند
اللّه، و يؤيد هذا قوله تعالى بلا فاصل: ﴿ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ
مِن قَبْلِهِمْ ... ﴾ [5] أي من قبل المعذبين على الإسلام فصبروا صبر
الأحرار ، ﴿ ... فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا
وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ ﴾ [6] لأنه يعلم ما هو كائن و ما كان و ما
يكون و ما لا يكون، و لكن لتظهر الأفعال التي يستحق عليها الإنسان الثواب
و العقاب .
﴿ أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا
وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ ﴾ [7] ليس الايمان كلمة تقال ، بل لا بد من
الابتلاء و الامتحان بأنواع من السراء و الضراء ، فمن صبر عند هذه و لم
يخرج عن دينه ، و شكر و تواضع عند تلك و لم يطغه الجاه و المال فهو المؤمن
حقا ، و الا فما هو من الايمان في شيء .. هذا ما دل عليه ظاهر الآية ، و
إذا عطفنا عليها بقية الآيات الواردة في هذا الباب نستخلص منها ان للايمان
ظاهرة لا تنفك عنه بحال ، و هي أن يستجيب المؤمن لدعوة اللّه تعالى
استجابة عملية ، لا لفظية مهما كانت النتائج ، أي ان يحرص أشد الحرص على
طاعة اللّه في أمره و نهيه ، و يطبقها في عمله و سلوكه ، و إذا ابتلي
بالخطوب و المحن لأنه أخلص للّه فما يزيده ذلك إلا ايمانا و تسليما .
﴿ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ... ﴾ [8] اختبرنا بالشدائد
أتباع الأنبياء من الأمم السابقة ، فصبروا صبر الأحرار ، و ازدادوا تمسكا
بدينهم و إخلاصا لربهم و أنبيائهم .
﴿ ... فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ
الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ ﴾ [9] يمتحن سبحانه
عبده بإقبال الدنيا عليه و ادبارها عنه لتظهر أفعاله التي يستحق عليها
الثواب و العقاب ، لأنه جلت حكمته لا يحاسب الإنسان على ما فيه من قابلية
و استعداد للخير و الشر ، و انما يحاسبه على أعماله التي تظهر للعيان [10]
.
[1]